فقه أثر عمر-رضي الله عن عمر- في أن الشتاء عدو قد حضر [رواية ودراية]

Like 0

بِسْمِ اللَّهِ والحَمْدُ للَّهِ والصَّلاةُ والسَّلامُ علَى رَسُولِ اللَّهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ ومَنِ اهتَدَى بِهُدَاهُ، أمَّا بَعْدُ:

■ فقدْ سألَ بعضُ الأحبَّة مِن طلبةِ العلمِ -زادهم الله توفيقاً وسداداً وهُدًى ورشادًا- عن صِحَّةِ ومعنى أثرِ عمر -رضي الله عنه- في كونِ الشتاءِ قد حضرَ وهو عَدوٌّ.

فاستعنتُ باللَّهِ واستخرتُهُ في بحثِ هذا الأثرِ الرَّاشِدِيِّ العظيمِ إفادةً لنفسي أوَّلاً، ولأحبابِي السَّلفيِّينَ مِن طلبةِ العلمِ ثانياً، سائلاً ربي جلَّ وعزَّ أن ينفعَ بهذا البُحيِّثَ، وأن يتقبَّلَهُ – عِنْدَهُ – بقَبُولٍ حَسَنٍ، وأن يكون مِنْ الرَّدِّ الكَافِي الوَافِي لِمَنْ سألَ -مِنْ خِلاَّنِي- عن الجَوَابِ الشَّافِي .. آمين.

● فأقول وباللَّهِ أَستمِدُّ العَونَ والسَّدَادَ، والتَّوفيقَ والهُدَى والرَّشادَ:

■ قد أخرج هذا الأثرَ الحافظُ ابنُ عَدِيٍّ -رحمه الله تعالى- في “كَامِلِه” (٥٣١/٤) [ في ترجمة سوَّارِ بنِ عبد الله بنِ قُدامةَ العنبريِّ القاضِي ] فقال :

حدثنا إبراهيم بن سفيان المطيري، حدثنا محمد بن يونس، حدثنا عبد الله بن سوَّار، حدثنا أبي، عن أبي ثُمامةَ عن كِنانَةَ عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال :

” إنَّ الشتاء عدوٌ حاضرٌ فأعِدُّوا له جِلدَ شاةٍ )).
● قال عبد الله بن سوَّار : يعني الفِرَاء.

■ قلتُ : [ جَمْعُ فَرْوَةٍ : وهي الجِلْدُ الذي عليه شَعرٌ أو صُوفٌ ].

● وهذا إسنادٌ مُظلِمٌ هالكٌ ؛ فيه متَّهمٌ بالكذبِ ومَجهُولاَن !؛
أمَّا ( محمد بن يونس ) فهو الكُديَمي البصري المتهم بالكذب ! وهو عِلَّةُ السَّندِ.
وقد ثبتت روايته عن ابن سوَّار في “تاريخ دمشق” للحافظ ابن عساكر -رحمه الله تعالى-.

وأمَّا أبو ثمامةَ وكِنانةُ فلا يُعْرَفَان.

● وقد ورد في أثرٍ لابن أبي شيبة -رحمه الله تعالى- في “مُصنَّفِه”
(٧٧/٤ – الأثر ١٧٩٨٣ – ط الرشد) أنَّ كنانة منسوب لأبيه الصلت [ كنانة بن الصلت ] في أثرٍ من رواية سوَّارٍ عن أبي ثمامة أن كنانة بن الصلت، فذكر له قصة مع طلاق امرأته.

● وهو في جميع النسخ المخطوطة ل “المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية” للحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- : [ كنانة بن ثور ] !

● وأما في “أخبار القضاة” (٦٨/٢) للإمام وكيع -رحمه الله تعالى- فهو : [ كنانة بن نقب ] !

ومهما يكن اسم أبيه فهو مجهول لا يُعرف. وأبو ثمامة مثلُه تمامًا في الجَهالةِ.

■ وقد وقفتُ له على طريقٍ أخرى ذكرها الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى- في “لطائف المعارف” فقال:

” وروى ابن المبارك، عن صفوان بن عمرو، عن سُليم بن عامر، قال:
” كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا حضر الشتاء تعاهدهم، وكتب لهم بالوصية:: ( إنَّ الشتاءَ قد حضرَ، وهو عَدُوٌّ فتأهَّبُوا له أُهبَتَهُ من الصُّوفِ والخفافِ والجواربِ، واتخِذُوا الصُّوفَ شعاراً ودِثَاراً، فإنَّ البردَ عدوٌّ سريعٌ دخولُه بعيدٌ خروجُه )”

📗 “لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف” (ص ٣٣٠ – ط دار ابن حزم).

● قلت: هذا إسنادٌ رجالُه كلُّهم ثقات،
وهو صحيح إن كان سليم الكلاعي -ويُقال الخبائري!- قد سمع من عمر رضي الله عنه،
وقد زعم أنه قُرِئَ عليه كتاب عمر كما في ترجمته من ” تهذيب الكمال “.
وكان قديماً معروفاً.
وكان يقول : ” استقلبتُ الإسلام من أوَّله ” رواه ابن معين كما في ” تهذيب الكمال “.

■ قال الإمام الذهبي كما في ترجمته من “السير” (١٨٥/٥) :
” فهذا يدلُّ على أنَّه وُلد في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ” انتهى.

● قلت : وقد عمَّر طويلاً رحمه الله تعالى وهو قديم جداً. فقد أخرج البخاري في “تاريخه الكبير” (١٢٧/٢/٢) روايتَه عن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-.
وذكر بعضهم -كما في ترجمته- أن له صحبة !
ووهَّم الحافظُ ابنُ حجر -رحمه الله تعالى – مَن قال ذلكَ عند خَتمِه لترجمتِه من “تهذيب التهذيب”.

● وقد وقفت له على تصريحه بالسَّماع من عمر -رضي الله عنه- في صحيح ابن حبان (٢٥١/٧- رقم ٢٩٨٣) وصحَّح إسنادَه وحديثَه فيه الإمامُ الألباني رحمه الله تعالى في ” التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان ” (رقم ٢٩٧٢)، وأشار فيه إلى “السلسلة الصحيحة” ( رقم ١٢٤٤).

● وقد نقل هذا التصريح بالسماع الحافظُ شهابُ الدِّين البوصِيري -رحمه الله تعالى- من صحيح ابن حبان -رحمه الله تعالى- كما في ” إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة ” له (٥٥٢/٤ – رقم ٤١٣٦/٣)؛ فهو ثابتٌ في سندِ الحديثِ الذي رواه، وليس هو من أخطاءِ النُّسَّاخِ.

■ وفي هذا التَّحقيقِ ردٌّ جليٌّ على من زعم أنَّ : ” سليم الكلاعي .. لم يُدرك عمر -رضي الله عنه- ” !!،
وزعمَ أنَّ ” طبقة سماعه من الصَّحابة الذين تُوُفُوا بعد سنة (٨٦ هـ) ” !!! ولا دليلَ له على ذلك -ولا أثَرة مِن علمٍ- إلاَّ الظَّنّ !

﴿ وَمَا لَهُم بِهِۦ مِنۡ عِلۡمٍۖ إِن یَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّۖ وَإِنَّ ٱلظَّنَّ لَا یُغۡنِی مِنَ ٱلۡحَقِّ شَیۡـࣰٔا ﴾ [النجم ٢٨].

● قلتُ : وممَّن قبِلَ أثَرَ عمرَ -رضي الله عنه- ورآه ثابتًا فاستفادَ منه ووظَّفَهُ : الحافظُ الجِهبِذُ إِمَامُ النُّقَّادِ -في زمنِه- ابنُ رجبٍ الحنبليُّ فقد أورده في ” لطائف المعارف ” (ص ٣٣٠) ثمَّ علَّق عليه بتعليقٍ نفيسٍ ماتعٍ فقال -رحمه الله تعالى-:

” وإنَّما كان يكتبُ عمرُ إلى أهلِ الشَّامِ لمَّا فُتحتْ فِي زمنِه، فكان يَخشَى علَى مَن بها مِن الصحابةِ وغيرِهم ممَّن لم يكنْ له عَهدٌ بالبَردِ أن يتأذَّى بِبَردِ الشَّامِ؛ وذلكَ مِن تَمامِ نَصِيحتِه، وحُسْنِ نَظَرِهِ وشَفَقتِهِ وحِيَاطَتِهِ لِرَعِيَّتِهِ رضِيَ اللَّهُ عنهُ ” انتهى.

■ وأعقبَ الحافظُ ابنُ رجبٍ هذا الأثرَ بأثرٍ آخرَ عن كَعبِ الأحبارِ -رحمه الله تعالى- أنه قال:

” أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام أن تأهَّب لِعَدُوٍّ قد أَظَلَّكَ !
قال: يَا ربِّ مَنْ عَدُوِّي وليس بحضرتي عَدُوٌّ ؟ قال : بَلَى الشِّتاءُ “.
▪︎قلتُ : وهو من أحاديث بني إسرائيل. وهو مُوَافِقٌ لما في أثرِ عمرَ -رضي الله عنه-.

■ وإنَّ أثرَ عمر رضي الله عنه هو مُجرَّد أثرٍ موقوف عليه غير مرفوع للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.

وأئمة الحديث -رحمهم الله تعالى- -كما لا يخفى على أهل الصَّنعةِ- يتساهلون في إثبات الآثار إن لم تنطوِ على حكمٍ شرعي أو على نكارة فاحشة.

وهذا الأثر ليس فيه حكم منسوب للشريعة الغرَّاء.
وليس فيه ما يُستنكَر من المعاني ؛ وإنما هو وصية نافعة.

فلو لم تثبت عن عمر رضي الله عنه -أصلاً- لما كان فيها حرج من العمل بها.

● وأمَّا قولُه عن ” الشِّتَاءِ ” بأنَّه : ( عَدُوٌّ ) فلا إشكالَ فيه -كما اسْتشكَلَهُ بعضُ مَن لم يتمعَّنِ الأثَرَ، ولم يُنْعِمِ التَّأمُّلَ والنَّظَرَ !- فقد فسَّرهُ في الأثرِ -نفسِه- بِأَثَرِ الشِّتاءِ ومُتعلَّقِهِ وهو : البَرْد؛؛ فقال -رضي الله عنه- :

” .. فإنَّ البَرْدَ عَدُوٌّ سريعٌ دُخولُهُ بعيدٌ خروجُهُ”

● والشتاءُ كفَصْلٍ هو – فِي أصلِه – نعمةٌ وليس بِعدوٍّ ولا بِنِقْمَة؛ وفي ذلك آثارٌ كثيرةٌ عن السَّلفِ الكِرَامِ؛ وذلك باغتنامِ لَيلِه بالقيام، ونهارِه بالبِّرِّ والصِّيام؛ فهو غنِيمةُ العابدِينَ البارِدَة، والحسنةُ المَرجُوَّةُ العائِدَة، وليس هو بِعدوٍّ -أبداً- بهذا الاعتبار.

● وإنَّما قد يُعَدُّ عَدُوًّا للدِّينِ! والدُّنيَا باعتبَارٍ آخَر ؛

■ أمَّا كَونُهُ عدوًّا للدِّينِ: فبِمَا يَجُرُّهُ على كثيرٍ من العِبَادِ مِنْ تَكَاسُلٍ عن كثيرٍ مِن العِباداتِ والقُرُبَاتِ والطَّاعات ..

● فقد أخرج الحافظ أبو نُعيم -رحمه الله تعالى- في “الحلية (١٢٦/٦)” بسنده إلى سعيد بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى- قال :
” البَردُ عَدوُّ الدِّينِ “.

▪︎قال الحافظ ابن رجب -مُعلِّقًا على أثَر سعيدٍ-:
” يُشِير إلى أنَّه يُفتِّرُ عن كثيرٍ من الأعمالِ، ويُثبِّطُ عنها فتكسَلُ النُّفوسُ ” .(اللطائف ص ٣٣١).

● وقيل لِأبي حازم الزَّاهد : إنَّكَ لَتُشدِّدُ -يعني في العبادة- ؟
فقال: وكيف لا أُشدِّدُ وقد ترصَّدَ لِي أربعَة عشرَ عَدُوًّا.
قيل له : لك خاصَّة ؟
قال : بل لجميع من يعقل.
قيل له : وما هذه الأعداء ؟ ..
-فعدَّ مِن جُملة أعدائِه- : .. الحَرَّ والبَرْدَ. ( لطائف المعارف ص٣٣١).

■ وأمَّا كَونُهُ عدوًّا للدُّنيَا: فَمِمَّا يُسبِّبُهُ مِنَ الضَّررِ لكثيرٍ مِنَ العِبَادِ -وخاصَّةً الفقراء منهم- مِن مَرَضٍ ونَقصِ مَعيشَةٍ وقِلَّةِ زرْعٍ، ونُدرَةِ صَيْدٍ ونَفَادِ ضَرْعٍ .. وغيرِ ذلكَ من الابتلاءاتِ والمُنَغِّصَاتِ ..

فالشِّتَاءُ – مِنْ هذا الوجهِ والاعتبارِ – يُعتبَرُ عدوًّا للدِّينِ والدُّنيَا، لا مِن كُلِّ وَجْهٍ وكُلِّ اعتبَارٍ .

■ ولِهذَا نظيرٌ مِن كتاب الله تعالى؛ وهو قوله سبحانه وتعالى :

﴿ یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِنَّ مِنۡ أَزۡوَ ٰ⁠جِكُمۡ وَأَوۡلَـٰدِكُمۡ عَدُوࣰّا لَّكُمۡ فَٱحۡذَرُوهُمۡۚ وَإِن تَعۡفُوا۟ وَتَصۡفَحُوا۟ وَتَغۡفِرُوا۟ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورࣱ رَّحِیمٌ ﴾ [التغابن ١٤].

فمِنَ الأزواجِ والأولادِ -إنْ كانُوا مُسلمِين- مَنْ يكونُ عدوًّا لِلمَرْءِ في بعضِ الحالاتِ، فليسُوا بأعداء له في كل حالٍ، ومن كل وجهٍ، لكنَّهم قد يكونون أعداءً له في حالٍ دون حالٍ؛ كتأثيرِهم عليه ليترك طاعةَ الله تعالى بالهجرة الواجبةِ في سبيل الله تعالى، أو يَحمِلُوه على معصيةِ الله تعالى في بعض الأحايين!؛ فلا يستطيع -مع حِبِّه لهم- إلا أن يُطِيعَهم في

ذلك ! ؛ فيكونون أعداءً له من هذه الجهة. كما قاله أئمَّة التفسير رحمهم الله تعالى في سبب نزول هذه الآيةِ الكريمةِ العظيمةِ.

■ فالشِّتاءُ على ما فيه مِن مَصالحَ وفوائدَ مِن قِصَرِ نهاره فيُصَام، وطُولِ ليلِهِ فيُقَام .. إلاَّ أنَّه على الفقراءِ عذابٌ وبلاءٌ ولَأْوَاءٌ، يَغلُظُ فيه الهوَاء، ويستحْجرُ له الماء، ويَقشِفُ الأبدان، ويُموتُ فيه كثيرٌ من الإنسِ والحيوان.

■ كما قال مالكُ بن الريب -[وقيل إنَّ البيتَ لغيرِه]-:

إنَّ الشِّتاءَ عَدُوٌّ مَا نُقاتِلُهُ # فارْحَلْ، هُدِيتَ، وثوبُ الدِّفءِ مَطْرُوحُ

وأَختِمُ هذا الجَمعَ بفائدةٍ مُبارَكَةٍ -إن شآء اللَّهُ- تُبيِّنُ بعضَ حِكَمِ اللَّهِ في خَلْقِهِ لِلحَرِّ والبَردِ ؛

■ قال الحافظُ ابن رجبٍ -رحمه الله تعالى- :

” وليسَ المأمورُ به أن يَتَّقِيَ البَردَ حتَّى لا يُصِيبهُ منه شيءٌ بالكليَّة ! ؛ فإنَّ ذلك يَضُرُّ أيضًا؛ وقد كان بعضُ الأمراءِ يَصُونُ نفسَه مِن الحرِّ والبَردِ بالكليَّةِ حتَّى لاَ يُحِسّ بهما بَدنُه، فَتَلِفَ بَاطنُه ! وتعجَّلَ موتَهُ !!
فإنَّ اللَّهَ بحكمتِه جعلَ الحرَّ والبردَ في الدُّنيَا لِمَصالحِ عبادِه؛ فالحرُّ لِتَحلُّلِ الأخْلاطِ، والبردُ لِجُمُودِهَا، فمتَى لَمْ يُصِبِ الأبدانَ شيءٌ مِنَ الحرِّ والبَردِ تَعجَّلَ فَسادها !
ولكنَّ المأمورَ به اتِّقَاءُ مَا يُؤذِي البدنَ مِن الحرِّ المُؤذِي، والبَردِ المُؤذِي المَعدُودَانِ مِن جُملةِ أعداءِ ابنِ آدمَ ” انتهى من (لطائف المعارف ص٣٣١).

هذا ما أحببتُ إتحافَ إخوانِي به، نُزُولاً عند رَغبَتِهم، وتلبيةً لِطِلْبَتِهِم، وإكرَامًا لِجمِيلِ سُؤالِهِم .. واللهُ مِن وراءِ القَصْد، وهو الهادِي وحدَهُ إلى سَبيلِ التَّوفِيقِ والرُّشْد.

والله تعالى أعلم وصلَّى الله على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا

محبكم في الله
والداعي لكم بالخيرات والمسرات
واغتنام أوقات الشتاء بالطَّاعات

أخوكم/ أبو إسحاق الهلالي
-عفا الله عنه-
-بمنه وجوده وكرمه-

 
Scroll to Top